قصة قصيرة
الموت الأخضر
---------------
صراع بين الوجود وعدمه وبين المرئي واللامرئي وأناس آخرون يلتزمون الصمت بفوضى أزدحمت بها المدينة والكثير ممن فضل ركوب الموج ليتسكع بطرقها الضحلة ، لقتل كل أخضرار فيه الحرية نواتها .
بالرغم من الاختلاف الفكري بينهما كان الغريب هو هذا الوئام الذي يجمعهما والأغرب من هذا إن الاثنين كانا مطلوبين من السلطة الحاكمة في بلدهما ، وطريق طويل سارا به معا للوصول الى حدوده الغربية للنجاة بحياتهما .. كان شابا في الخامسة والعشرين من عمره ، وسيماً ، انيقاً ، مثقفاً كأنه كتاب يدور في الفضاء أسمه احمد .. والاخر في السابعة والثلاثين من عمره طويل القامة أسمر البشرة ولحية بذقن لم تفارق وجهه منذ سبع سنين كان يدعى عليا ، فكره مكتبة متنقلة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب كلما غار في داخل نفسه يجد الأخرين دائما حاضرين وأن غار بهم وجد نفسه .. قليل ماكان يغادر الدار او يطل حتى من نافذة منزله دائم القراءة محب للكتب استطاع أن ينفذ الى السماء وعرف في النهاية إن الله ضوء ساطع ينتشر على الكون لكنه الى الأن لم يستطع أن يعرف وليد من هذا السطوع ! .
كانت رحلة طويلة في الليل والنهار وحديث وأرهاصات فكرية تجمعهما كلما ارادا الأستراحة قليلا وغذاء من التمر وبعض رقائق الخبز اليابس . قال علي لصديقة احمد :
- هل تعلم اننا نسير وحياتنا مقدرة
أبتسم احمد له وأشرق وجه لحوار قد يقتل هذا الوقت والخوف الذي كان مصاحبا لهما طوال هذه الرحلة ورد عليه
- أن قدر الله افعالي عليه إذاً عدم محاسبتي !
كان معتادا على فلسفته في الوجود وانغماسه فيها . أجابه
- أن الحرية تعبير حقيقي عن الوجود الذي يضحي الأنسان من أجلها
- إذاً الوجودية هي فلسفة الحرية التامة في التفكير دون قيود رد عليه بحروف خرجت من بين صرير أسنانه
- الى الان أنت تعتقد إننا نقتات من الأوهام !
- لا .. لكني مازلت أبحث ، أن الوجود الذي أراه لا يراه غيري
مد علي يده على مكان المخ في رأس احمد
- الحقيقة الثابتة هي وجود الله صديقي لاتنسَ أن الحلم هو الغطاء الوحيد .. عن الوجود والعدم .. وبين النفي والأثبات .
أجابه بكل ثقة
- أنا ادافع عن الحياة قبل الدخول في متاهات القيامة ونفيها فهي لا تعنيني ولا أريد إثباتها
- لكن الحكماء استطاعوا الغور والوصول الى الاثبات
أبتسم له وهو يردد : نعم لكن احكم الحكماء لم يستطيعوا الغور في غربتهم وأكتشافها
- لا أبدا انك مخطىء أن الحكيم عالم ويرتدي رداءً من قماش خشن يخفي ماهو الثمين داخله
وقف على قدميه وطالب صديقة السير من جديد والأخر لا يريد السكوت دون تكملة هذا الجدال
- لو نتخلص من الحكمة والحكماء والفطنة سيصبح الناس في احسن حال ! وترك الجدال مع اؤلئك الذين يجادلون بدون حكمة ..
لم يشعر الأ بصفعة على قفا رقبته شقت هدوء المكان
- إذاً اصمت وسر ايها المتحذلق من ذاك الذي يجادل بدون حكمة !؟
ضحك احمد منه وقال له
- هل تعلم أنك كمن يحمل الأنجيل بيد والفكر اليساري بيد وقلبك ذهب الى الأسلام ! وكان هذا سبب كافٍ لكي يشي جارك المتأسلم حديثاً الى رئيس تنطيمه الحزبي وتهدد بالقتل ..
رد عليه بغضب
- لا تباً لهم أن استطاعوا الغور في ذاتي ومعرفة ماهيته ، لكنه أنتَ هو السبب ايها الملحد وتلك الصداقة التي تربطني بك !!
ضحك الأثنان من تلك السخرية التي جمعتهما معاً ..
دخلا حقل لسنابل حنطة كان الوقت ليلاً وصمت المكان لا يشقة سوى صوت خطى اقدامهما على سيقان السنابل ولم يتبقَ سوى بضعة عشرات من الامتار للوصول الى ضفة الأمان . وفي لحظة سرقت من زمنهما قفز أرنب أمامهما كان يهرب من شيء ما ، قفزا الاثنان من شدة الخوف وكاد نبض قلبيهما يتوقف .. أراد احمد التخفيف على صديقة الكبير وأدخاله بجدال اخر ينسيه الذي حدث
- لاتخف علي فلا شيء يتحرك بدون سبب كما هو هذا الأرنب لاشيء يتحرك من تلقاء نفسه دائما هناك اسباب ..
- وهل تعلم انني مت قبل الان قالها علي بأسى كبير وصوت به شجون .. صدقني يا احمد انا مت ولم يكن حلما والان انا امضي الى ما لا اعرفه !
- هه .. وأن مت ؟ ستكون كما هي هذه البذور التي تموت لتخضر من جديد .. ففي موتك ولادة
- نعم حقا أن كل شيء يعود الى أصله الذي صدر عنه وهذا هو النمط الابدي .. العودة الى الهدوء والسكينة .. وأن أختفى الجسد في خضم محيط الوجود سيكون بعيدا عن كل أذى .
ما أن اكمل جملته الاخيرة حتى أخترقت جمجمته طلق ناري لقناص في برج كان يراقب حدودا لم يخرج منها أحدا يسير على قدميه ، رصاصة كانت قريبة جدا من أذن احمد شعر بحرارتها عند المرور حركت خصلات شعره وطنين في الأذن أصابها بالخرم ولحظات سكون وهدوء وسكينة . سقط على الأرض أمتزجت دماؤه بسيقان السنابل وحنطتها الخضراء . اصابت احمد الصدمة والذهول تسمرت قدماه .. عرف أن القناص لم يشاهده هو بل شاهد صديقه طويل القامة .. حاول أن يهرب من المكان بسرعة ودموع تتساقط أسرع من تلك الرصاصة التي اخترقت رأس صديقه .. عبر الحد الفاصل بين البلدين شعر بالأمان ادرك لاول مرة في حياته .. أن كل شيء قابل للتغير ، الفكر ، العقائد ، القناعات ، القدوة ، الرموز .. وكلها لاتستحق أن يضحي الانسان بحياته من أجلها .. فحياة ذلك الصديق كانت عنده أغلى بكثير من كل هذا الهراء .
منى الصراف / العراق
إرسال تعليق
إرسال تعليق