الحمل والطفل
pregnancy

0

قراءة في كتاب نظرات في الحب والجمال للأديب حاتم بصيلة
بقلم عماد الدعمي
إن للجمال معايير تعتمد على الحواس وأخرى تعتمد على الإحساس والشعور ، فلا يتصور البعض أن معرفة الجمال من حولنا تقتصر على ما نراه بأعيننا ، أو ما نشمه بأنوفنا ، أو ما نتذوقه بألسنتنا ، أو ما نسمعه بواسطة الأذنين ، فالجمال قد يكون شيئا ماديا ملموسا وقد يكون إدراكا تنغمسُ فيه الروحُ والوجدانُ والعقلُ ، ومن خلال البحث لم نعثر على تعريف عام أو محدد للجمال ، ولكننا وجدنا أن من يرى الجمال يكون راقيا بالإحساس مهذبا للنفس ، فالجمال يبعث على الطمأنينة والراحة ويخفف من وطأة الضغوط والقلق والتوتر ويزيد التفاؤل ويبعث الإشراق ويبعد عنه مشاعر التشاؤم والحزن وهو المصدر الحقيقي للسعادة وفيه من المفاهيم الأخلاقية العظيمة كالصدق والحب والفضيلة وسائر سلوكيات الإنسانية الحميدة .
تختلف الرؤية إلى الجمال من شخص لآخر وهذا الاختلاف ناتج عن عدة أسباب أهمها الذوق والحاسة والرأي واختلاف البيئات لما لها من الأثر الواضح على من يعيش فيها ...
وحينما يتجسد لنا الجمال بكافة عنوانيه ومسمياته فلم يعد أمامنا سوى أن نظهره من رؤيتنا الخاصة ، وهذا الاختلاف في الرؤى بحد ذاته مكسبٌ كبيرٌ للآخرين .
الأديب بصيلة رؤيته للجمال مختلفة تماما عن الآخرين لعدة أسباب أهمها .. رهافة الحس كونه شاعرا وفنانا ... وفوق كل هذا هو إنسانٌ طيبُ القلب محبٌ للسلام والخير ونظرته للجمال خاصة وفق شروط صعبة وللغاية  ،
وحين اطلاعنا على كتابه نظرات في الحب والجمال ( فتاة الياسمين ) وتمعننا فيه وولوجنا بين طيات أحرفه ، اكتشفنا أن الجمال عنده مختلفٌ عن الآخرين فهو يغوص بعيدا حتى أننا وجدنا في غوصه بُعدا فلسفيا حادا يجبرنا على الإبحار فيه والتنقيب بين طياته ، قال : (( إن رموش عينيك تساعدني على أن أتحسس وأتطلع إلى إيقاع الحركة حين يرمشان فأشعر أن الله موجودٌ ، وأنهُ يرعاني بذلك الجمال فأهدأ وأعيش لذة الخلود التي لا يعرفها الآخرون ))
لاحظ كيف ربط الجمال الحقيقي بصانعه الأول والأخير ألا وهو الله سبحانه وتعالى ، ثم كيف يرى حركة الرمش بإيقاع خاص وكأنها موسيقى حتى يبعث ذلك عنده هدوءاً في النفس مما يجعله سارحا منهمكا في عالمٍ غير محسوس وهو يعيش لذة الخلود وكأنه في عالم آخرٍ بعيدٍ عن منغصات الحياة ...
بصيلة ومن خلال اطلاعي على مؤلفه وجدت فيه أنه متأثرٌ بكل ما يحيط به من الطبيعة العصافير ... الأشجار ... النوافذ ... الطرقات ... الأطفال ... القبور ... الليل ... النهر ... الموج ... وكل هذه المفردات تبعث في نفسه الجمال فتارة نجده يكتشف الجمال ويضعه أمامنا وتارة يصنعه لنا جليا من خلال لوحة أو قصيدة أو مقالة أو قصه ... كما ظهر وتجلى في مؤلفه هذا ...
قال في بعض أبيات مصورا خلجات نفسه
عصافيرٌ على النارنج
راحت وهي تزدحم
يُقبلُ بعضها بعضا
وبيّ النيران تضطرم
كأن غرامها عسلٌ
كأن وجوديّ العدم
عصافير تُعذبني
ويرقص حولي الألم
هنا تتجلى رؤيته للجمال من خلال العصافير والطبيعة كما ذكرنا
فتاة الياسمين عبارة عن قصة مفرداتها مأنوسة غاية في الشفافية والرقة ... غلب عليها الحوار القصصي والسرد الجميل الذي أراد من خلاله الوصول عما يدور في مكنونات نفسه بلغة أدبية مرنة سلسة مستساغة ليس فيها أي تكلف وتعسف وهي دلالة على صدق الشعور والإحساس وهو أرقى درجات الأدب .
قال: في قصيدة
إلى عينيك سيدتي
يذوب الشعرُ في لغتي
يسافرُ في دمي وهجاً
وتصرخُ فيك موهبتي
كأن الشمسَ راقدةٌ
على كفيك يا امرأتي
تطلُ بضوء عاشقة
كفاتنة بنافذتي
أقول حبيبتي مهلا
على قلمي ومحبرتي
الآن لو أمعنت لوجدت كيف ومن خلال المرأة التي يخاطبها يتجلى الجمال له حتى يراها المصدر الحقيقي للجمال والملهم الأول للقصائد فهي حبر القصائد وكيف لا وهذا المؤلف من أجلها ..
ومن خلال تمعننا في الكتاب وجدنا أن القصة مع فتاة الياسمين لم تكن من ضرب الخيال وذلك لعدة أسباب قد يطول شرحها ولا يسعنا المجال أن نتطرق إليها بهذا المبحث القصير ولكننا باختصار مفيدٍ ... نقول أن الحوار بينه وبينها كان خيرَ دليل على واقع كان قد حصل ووقع ... ومن ذلك لمسنا مدى النظرة الجمالية عند بصيلة للمرأة والتي من دون شك هي رؤية خاصة قد لا يتمتع بها البعض من الناس ، ولكن هذا لا يمنع أن المرأة التي رأى فيها الجمال وجسد لها هذا الكتاب هي من الطراز الرفيع وللغاية ، وهي دلالة أنه قد يرى القبح في نساء أخر ما لم يتصفن بالصفات التي يريدها هو وبهذا يكون عالمه صعبا وليس من السهل أن تدخله أيُّ امرأةٍ....
قال حينما ينتظرها في موعد وهو لم يرها من قبل (( إنني لا أعرف شكلها وإنما هو إحساسٌ عارمٌ بالحب والجمال الروحي في زمنٍ تساقطت القيمُ الروحية فيه تساقطاً مرعبا ))
هنا يتجلى الجمال الروحي تماما فحينما رآها عبّر عن مكنونات نفسه بعبارات ساحرة (( وكان حبا عاصفا ضوئيا يحملني مثل ملاك فوق الغيوم فتضيء بالحب والجمال والطيب والأصالة والسحر ))
بصيلة .. من خلال فتاته تفتحت شهوته الجمالية حتى راح يرى الأشياء من حوله جميلة بل صار يوظفها في ما يريد كالخاتم والأقلام والأشكال الهندسية وكل هذا حدث أثناء اللقاء ..
قال : (( لقد بلغ يا حبيبتي من اهتمامي بك أنني بدأت أبحث عن الهندسة ومفاهيمها متذكرا قول أفلاطون الذي كتب في مقدمة أكاديميته جملةً (( لا يدخلها إلا عارف بالهندسة ))
الحب كان هو مصدر الجمال في هذا المؤلف ويرى بصيلة أن الدنيا لا تستقيم ما لم يكن الحبُ هو السائد بين ما خلق الله من المخلوقات ، فالحب هو الباعث الحقيقي للسلام والأمان وقد استشهد بالفيلسوف الألماني( كانت ) حينما اعتبر الحب سببا رئيسا في التقدم الحضاري ، كما استشهد بالفنان الهولندي فان كوخ في الجنون والحب وذكر الرسام الأسباني بيكاسو والروائي الفرنسي فكتور هيجو الذي كان رمزا للرومانسية الخالدة والروائي الروسي دسويفسكي وما دليل استشهاده بهذه الرموز الأدبية إلا سعة اطلاعه وولوجه في عالم الأدب ....
حاتم عباس بصيلة كان مجيدا وللغاية وظف ما أراد توظيفه لنا من خلال لغة رائعة وزينها ووشحها بقصص وحوارات شفافة وجريئة في عدة مواضع وكانت المرأة هي الصانعة الأولى للجمال لديه في هذا المؤلف ، لكنه وبذات الوقت حساس جدا وقد تختلف نظرته عنها وبالتالي يعود سلبا عليها حينما لا يراها كالقديسة وقد يصعب هذا في زمننا الذي نعيشه ، 
بصيلة امتلك الأدوات الكافية ولديه المزيد من العطاء ، وفقه الله لما يصبو ويريد وفوق كل ذي عليم .....

التالي
هذا هو أحدث موضوع.
السابق
رسالة أقدم

إرسال تعليق

 
Top