أسواق الجزيرة والخليج القديمة.. تجارة وثقافة وبلاغة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي
لم تكن الأسواق العربية قديماً مجرد أماكن يتمّ فيها التبادل التجاري من بيع وشراء، بل اكتسبت أهمية أكبر؛ لكونها محفلاً لتجمّع الأدباء والشعراء من أقطار العالم العربي كافة، فالشعر خلّد لنا كثيراً من أحداث هذه الأسواق، حتى أضحت معلَماً مهماً لم يكن للعرب أحفل منه أدباً وحرباً ومتاجرة، وسياسة ومفاخرة وفداء أسرى. درج العرب على قيام أسواقهم في أشهر محدودة من السنة، ودعتهم طبيعة الاجتماع إلى المبادهة بالشعر والمباهاة بالفصاحة، والمفاخرة بالمحامد وشرف الأصل، وكانوا في هذه الأسواق يأمنون على دمائهم وأموالهم أثناء التقائهم بها. لمنطقة الخليج العربي منذ القدم حظ وافر من الأسواق التاريخية التي ذاع صيتها، واحتلت مكانة بارزة في التجارة والتاريخ والأدب العربي؛ وأدى موقع الخليج دوراً رئيسياً في ظهور عديد من المدن الساحلية، التي استغلت كموانئ ثم تحولت إلى أسواق نظراً لأهمية مواقعها.
سوق عكاظ
ـــــــــــــــــــــــــــــــمن أكبر أسواق العرب أيام الجاهلية، يقع في وادٍ بين مكة والطائف؛ سمي بذلك لأن العرب كانت تجتمع فيه فيتعاكظون أي "يتفاخرون ويتناشدون".وعكاظ من أعظم المنابر الأدبية؛ لهذا كان للسوق نتائج في حياة العرب ولغتهم، فقد كانت قريش أفصحها وأعذبها نطقاً، وكان للشعراء أثرهم في انتقاء الألفاظ الفصيحة المشهورة عند أكثر القبائل ولا سيما لغة قريش، فكان عكاظ من أقوى عوامل توحيد لغة العرب وتمازج القبائل والتقارب بينها. كانت عكاظ معرضاً تجارياً ومنتدى اجتماعياً حافلاً بكل أنواع النشاط، كما كانت الأحداث التي تجري فيه مصدراً للأمثال، كذلك كانت ترفع في السوق رايات الحزن إذا نكبت قبيلة، وتقام فيه مباريات الفروسية والسباق وغيرها.
عكاظ اليوم
ـــــــــــــ اليوم يشكل السوق معلماً سياحياً فريداً في المملكة العربية السعودية، ويعتبر من الروافد السياحية المهمة، حيث يجد زائره الجمع بين التقنيات الحديثة مع جغرافية المكان، وقيمته التاريخية الأصيلة. وتأتي أهمية السوق في الوقت الحالي من كونه ملتقى شعرياً وفنياً وتاريخياً فريداً من نوعه، يقصده المثقفون والمهتمون بالأدب والثقافة، كما يعيد إلى الأذهان أمجاد العرب وتراثهم الأصيل، ويستعرض ما حفظه ديوان العرب من عيون الشعر ومعلقاته، ويقدم في كل مهرجان احتفالاً واحتفاءً بأحد شعراء المعلقات ليؤكد اتصال التراث بالحاضر.ويقدم سوق عكاظ عديداً من الفعاليات والجوائز على مستوى الوطن العربي، حيث يغطي مساحة واسعة من الإبداع الفني؛ ابتداء من الشعر مروراً بالفن التشكيلي والتصوير الضوئي والخط العربي وانتهاء بالفلكلور والحرف.
سوق مجنة
ــــــــــــ من أسواق الجاهلية الثلاثة الكبرى في موسم الحج، كان يرتاده النبي محمد صلى الله عليه وسلم لدعوة القبائل العربية للإسلام. يقصده العرب بعد أن تنفض سوق عكاظ، يتممون فيه ما قصدوا له من تجارة وفداء وتفاخر، ومجنة، وإن قرنت في أغلب الأحيان مع عكاظ وذي المجاز، إلا أنها دون السوقين شأناً. وقد أشار الشريف بندر بن علي الراجحي، أحد المهتمين بالآثار، في تقارير، إلى أن السوق شهد عدة اعتداءات أخفت معالمه وسرقت كثيراً من آثاره، لا سيما النقوش والأحجار الفخارية التي تعود للعصرين الجاهلي والأموي. وأضاف: أن "السوق لم يلق اهتمام الجهات المسؤولة فباتت الاعتداءات تهدده من كل جانب".
سوق ذي المجاز
ــــــــــــــــ من الأسواق التي اقترنت بسوق عكاظ ومجنة، ويعتبر أحد الأسواق الأدبية في الجاهلية، وكثر وروده في الشعر، وكانت العرب ترحل إليه بعد فراغها من سوق مجنة؛ لقربه من جبل عرفات، وهو من الأسواق التي تردد إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم عدة مرات، ليعرض الإسلام على القبائل العربية التي كانت تجتمع فيه. كان المكان قبل نشأة السوق موضع ماء، وهي بئر تعرف بذي المجاز، وتتوسط مجرى هذا الشعب، وهي بلا شك منحت المكان أهمية كبيرة، مهدت السبيل لنشأة السوق، وهذا مألوف في أصقاع الجزيرة العربية أنْ ترادف الأسواق المياه.
ولا تزال الشواهد الأثرية المنتشرة في أرجاء السوق ماثلة، كما لا يخلو الموقع من قطع أثرية صغيرة، حيث قامت الهيئة العامة للسياحة والآثار السعودية بتسييج المنطقة التي يقع فيها السوق؛ لحمايتها بوصفها من الآثار المهمة في المملكة.
دومة الجندل
ـــــــــــــــــــــــــ من أوائل أسواق العرب قبيل الإسلام، يقع في مدينة الجوف السعودية، و"دوماء جندل" كما كان يطلق عليها قديماً لم تكن مجرد سوق يقصدها العرب في موسم واحد بل كانت مفرقاً مهماً من مفارق الطرق، وموضعاً يقصده أصحاب القوافل الذاهبون من جزيرة العرب إلى العراق وإلى بلاد الشام. والسوق عبارة عن أطلال محلات قديمة مبنية من الحجر ضمن المنطقة الأثرية أسفل قلعة مارد في مركز المدينة القديم، وتمّ إعادة وترميم بناء بعض المحلات بشكل قديم وجميل، ولا يزال يتوافد عدد كبير من الزوار إليه من داخل المدينة وخارجها.
هَجَر والمشقّر
ـــــــــــــــ اشتمل اسم هجر والمشقّر سابقاً على أرض البحرين عامة، واشتهرت منطقتها بالتمر، واستخراج اللؤلؤ الطبيعي، وكانت أكثر مكانة من دومة الجندل؛ لاتصالها التجاري ببلاد الهند وفارس، ولاختلاف أصناف بضائعها، حيث كان يوجد فيها ما لا يوجد في غيرها.
يشير المؤرخ السعودي عبد الخالق الجنبي في كتابه "هجر وقصباتها الثلاث" إلى أن "أصل تسمية "هجر" هو "الجرهاء"، وأن موقعها الجغرافي وفق ما ذكره المؤرخون يقع في حدود ما بين البصرة شمالاً إلى الأطراف الشمالية من عمان، وتضم البحرين وقطر والإمارات في هذا الوقت، وكانت المدينة الجرهائية تقع ضمنها، ويتخللها نهر عظيم يسمى "المحلم"، تجري فيه الملاحة من قبل ساكنيها مثلما كانت تجري الملاحة في نهر العرب في البصرة، ليصلوا من خلاله إلى البحر ويمارسوا ما عرف عنهم من التجارة.
وتقام فعاليات سوق هجر التراثي اليوم في محافظة الأحساء السعودية، التي هي الاسم الحديث لهجر، حيث يضم قصر إبراهيم الأثري عروضاً للحرف اليدوية، ومعارض تشكيلية وضوئية، وفعاليات ثقافية وشعرية.
سوق المشقّر
ــــــــــــــــــ من أشهر أيام العرب في الجاهلية، سمي بهذا الاسم نسبة لمعركة الصفقة الشهيرة التي انتصر فيها العرب على الفرس بالقرب من حصن المشقر. والمشقر مكان قريب من هجر، وهو حصن عظيم يقع إلى شمالها، ويعتبر من أشهر أبنية العصر الجاهلي في الصنعة والإحكام، كما ويُطلَق اسم المشقَّر على مواضع أخرى من بلاد العرب، لكن أشهرها أنه حصن في البحرين.
يقام سوق المشقر من أول جمادى الآخرة، وكان البيع في السوق بالملامسة والإيماء والهمهمة، وقد ذكر المُشقر كثير من الشعراء.
يقول الأعشى: "فإن تمنعوا منا المشقر والصفا....... فإنا وجدنا الخط جمّاً نخيلها"
يقع حصن المشقر حالياً في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية المعروفة باسم الأحساء، وتحديداً شرقي مدينة الهفوف في قرية تعرف باسم قرية القارة.
سوق عُمان
ـــــــــــــــــــ قيل: "من تعذر عليه الرزق فعليه بعُمان".. لسوق عمان عند العرب أهمية كبيرة؛ لكونها تتوسط بين بلاد فارس والهند والحبشة؛ ولاجتماع السوق على بضائع هذه الممالك الثلاث، حيث كانت العرب تقصده بعد الفراغ من سوق هجر، وكان يقام حتى آخر جمادى الأولى. اشتهرت عمان بالوَرسِ الأصفر الذي يصبغ به وبالعنبر، وبقيت سوقها تقام في موسمها حتى أيام الرشيد.
سوق صُحار
ــــــــــــــــ تعتبر صحار من أعمر مدن عُمان وأكثرها مالاً، وهي مدينة ساحلية طيبة الهواء والماء كثيرة الفواكه والخيرات، كما ذكر ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان".
كانت تجلب السلع إليها من مختلف أقطار الجزيرة العربية، وتقام سوقها بعد انقضاء سوق حُباشة، وليست صحار من الأسواق العامة، بل هي سوق تجارية محضة، حيث كانت تشكل ميناءً عالمياً يربط بين الموانئ الخليجية وموانئ الهند والصين.
سوق دبي
ـــــــــــ تقع على ساحل البحر، وهي مدينة عظيمة ومشهورة، لها ذكر في أيام العرب وأخبارها وأشعارها، وكانت قديماً تتبع قصبة عمان، وتمتاز ببضائعها الأجنبية التي يحملها التجار من بلادهم بحراً وبراً، ومنها كانت تنفذ تجارات العرب إلى الخارج، والبيع فيها بالمساومة؛ لأن السوق يختلط فيها العرب والأجانب.
سوق المِرْبَد
ــــــــــــــ من الأسواق التي برزت بعد الإسلام، وقد احتفظت بكثير من خصائص أسواق الجاهلية، وزادت عليها بخصائص أسبغتها الحضارة الجديدة، وغدت السوق مرآة تصور حياة العرب في الجاهلية والإسلام. تقع السوق على الجهة الغربية من البصرة وأقرب إلى البادية، وكانت في الأصل سوقاً للإبل، وفي عهد الأمويين صارت سوقاً عامة تتخذ فيها المجالس حتى غدت معرضاً لكل قبيلة تعرض فيها شعرها ومفاخرها وتجارتها. ازدهرت بالشعراء والأدباء والعلماء، وبخلاف الأسواق الأدبية الأخرى التي كانت مخصصة لأقوام الجزيرة العربية، كانت سوق المربد متسعة لأعراق مختلفة من فرس وصينيين وهنود وأقباط وعرب. وتقيم وزارة الثقافة في العراق منذ عام 1971 وإلى يومنا هذا، مهرجان المربد الشعري، حيث يشارك فيه عديد من الشعراء والأدباء العراقيين والعرب، ويستمد المهرجان عنوانه من سوق المِربَد التي كانت تقع في قضاء الزبير ضمن محافظة البصرة.
سوق صنعاء
ــــــــــــ تعد أسواق صنعاء من أقدم الأسواق في الجزيرة العربية، إذ يبلغ عمرها 2500 سنة، ووجد ما يشير إلى ذلك في "النقوش السبئية"، وقد سميت المنطقة بذلك الاسم نظراً لاشتهارها بالصناعات المختلفة؛ كصناعة السيوف والنقود وأدوات الحراثة في عهد التجارة مع الدولتين "السبئية" و"المعينية".
ويشير الدكتور علي سيف، أستاذ التاريخ بجامعة صنعاء، في تصريحات للصحافة المحلية، إلى أن "أسواق صنعاء القديمة تعود إلى ما قبل الإسلام، وكان يقصدها التجار من كل مكان، فكان هناك سوق يسمّى بـ"سوق العراقيين" وآخر بـ"سوق الشاميين" إلى جانب الأسواق الحرفية الأخرى التي كانت قبل الإسلام". وقد أفادت منظمة اليونسكو أن مباني تاريخية مهمة في مدينة صنعاء القديمة مصنفة ضمن مواقع التراث العالمي تعرضت لأضرار جسيمة، بسبب الحرب الدائرة في اليمن.
سوق حُباشة
ــــــــــــــ يقع سوق حباشة على جنبات وادي قنونا، ويعد من أشهر أسواق تهامة لدى العرب في الجاهلية وآخرها اندثاراً، وتشير الروايات التاريخية إلى أن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام قد نزل به، وباع فيه واشترى وهو تاجر قبل البعثة النبوية، واستمر السوق إلى ما بعد بعثة الرسول سنة 198هـ. يتميز السوق بموقعه على أهم طرق التجارة القديمة من اليمن إلى مكة ثم الشام، وكان هذا الطريق يمر بصنعاء ومأرب ثم مكة ويثرب، حتى يصل بصرى جنوب سوريا.
يشير الباحث الآثاري عبد الله الرزقي في دراسة خاصة إلى أن "سوق حباشة تقع في مفترق وملتقى طرق تجارة وحجاج، وهي سوق مخضرمة شهدت الجاهلية والإسلام، ولكونها تقع بالقرب من وادٍ كثير النخل والماء، ولكونه يقع بين مواقع تعدين مثل الذهب والرصاص والكحل الإثمدي، فإن ذلك ساعد على رواج المصنوعات المعدنية والتي كانت من أهم موجوداتها".
والحُباشة: جماعة من الناس ليسوا من جنس واحد؛ ولعلها سميت بذلك لكثرة ما يجتمع بها من مختلف القبائل.
يشار إلى أن هذه الأسواق كان لها أثر كبير في توحيد عادات العرب ولغتهم، وفي تطور حياتهم الثقافية والأدبية، ولكن مع تغيّر المجتمع العربي وتبدّل مفاهيم الحياة الاجتماعية والسياسية عند العرب، أخذت هذه الأسواق بالتلاشي والاندثار.
الصفحة الرئيسية
»
» Unlabelled
» ا.د صالح العطوان ... أسواق الجزيرة والخليج القديمة..تجارة وثقافة وبلاغة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
إرسال تعليق
إرسال تعليق