في الصباح ، تحولت الى ذئب
هادي المياح/ العراق
هبطتْ الشمس خلف الأفق ، وحلَّ الغروب .. فتسللت ُ الى قعر الّدبّابة ، في موضع مستطيل الشكل يحدّهُ الجنزير من جهتين فقط ، أما الجهتان الأخريان فمفتوحتان وكل واحدة منهما تشبه مأوى ذئب أو ثعلب..
كنتُ أحسّ بأنّ دماغي مازال يئِّن ويطِّن ممتلئاً باصوات المدفعية المعادية بعيدة المدى ، فلقد إختلط علينا معرفة أنواعها .. و تناهتْ الى سَمعي وأفراد طاقمي ، انفجارات لقذائف مختلفة وغريبة ، بعضها له ذيل صوتي يشبه مواء القطط ..
مددتُ قدميَّ بين دواليب السرفة ، وتذكرتُ نهاري الساخن المستهدف من قبل عزرائيل .. كان اليوم الاول لعبورنا النهر .. مررنا فوق تضاريس شديدة ، كلها لغوب وحفر لحيوانات برية وأفاعي .. مفازة كبيرة تقدر بمسيرة خمسة أميال او اكثر .. ثم استقبلتنا المدفعية بحفاوة كبيرة .. كنّا لم نذق الطعام ليومين متتاليين . وفي الموضع الجديد، وعندما تناولنا وجبة او وجبتين .. كنت قد شعرت بمغص شديد وأشتد المغص بشكل متسارع ثم بتّ مضطرا لقضاء حاجتي ولكن أين ؟ انا الان داخل الدبابة .. وقذائف المدفعية "البزونية "ترجمنا والمنطقة المحيطة بِنَا بلا رحمة ، رجماً متلاحقاً.. تطلعت الى المخابر على يميني والرامي يحتل مكانه بين ساقيَّ .. وأنا اتلوى .. كنت بحاجة الى حل ، ناولني أحدهم كيساً من النايلون..
يا إلهي !
ماذا يمكن ان أفعل بهذا الكيس ؟
لم يُجبْنِ ، واكتفى بابتسامة باهته !
لكني بحكم الخبرة والمعايشة ، إكتشفت طريقة سرقتها من بُطُون الكتب لأنسى بها بطني الذي بدا يغلي كأنني في مخاض.. قلت أتذكر قصة أي قصة حب حتى لو كانت فاشلة ! ولتكن الاولى فهي قصة فاشلة بامتياز ، أعقبتها بعد ذلك مئات القصص الفاشلة، لا ادري لم إخترت الاولى ولكني عللت ذلك بأن تلك القصة هي الفتيل الذي أشعل النار في قلبي ، لأول مرّة .. كان لي قلب فارغ لا ينبض الا بالحب نبضات مثل اختلاجات رهيبة .. وكنت أشم نسيمه فيبقى عبقه يرافقني أينما حللت كانت عواطفي تقدس الحب، ولمجرد ان تذكرها تتلاطم أحاسيسي كالأمواج ، حتى وانا وحدي، كنت أحس بحريق يتولد بداخلي ، لم أكن أعرف ان للعذاب عدة انواع، عذاب الفقدان عذاب الخسارة عذاب الفشل عذاب ال (...) للاحباب ، هناك عذابات كثيرة ومن عمق تخيلاتي ظهرت لي واجمة تنتظر قدومي فأقتربت منها وانا اتوهج من الاختلاجات ، الم اقل انها الفتيل الذي أشعل النار بداخلي ؟ حاولت ان اتمسك ببعضي بقدر ما أستطيع من القوة، تمسكتُ اكثر ، حتى ضاق مابين ساقىّ ، انتبهتُ الى صوت ندّ مثل آهة عالية من مقعد الرامي ..
وخرجتْ مني آهة شبيهة .. إنتظرتُ قليلاً ، وحالما ردّت مدفعيتنا، أسرعتُ بفتح بوابة الدبابة ، وقذفتُ بنفسي الى الارض، ثم هرولتُ مسافة عدة أمتار .. وكانت قدماي تغوصان في ارض رخوة .. عليَّ ان أسرع قبل ان تتوقف اطلاقات مدفعيتنا .. وهكذا فعلتها على عجل ولو اني تأخرت ، لكنت حتماً سأرى عزرائيل واقفاً بانتظاري..!
أصوات الرمي تشقّ ظلام الليل ، وقعر الدبابة محفوف بالخوف ، لا أستطيع القتال فيه على جميع الجبهات ، فالموضع مهلهل ورطب وأنا تارة أصير ذئباً وأخرى ثعلباً ولا ادري متى انهض في الصباح لأجد نفسي وقد تحولتْ هيأتي وأصبحتُ مثل "واوي" !
نمت لمدة لا تتجاوز الساعة او الساعتين ، لم أتعرف على نفسي عندما نهضتُ ، كانت أتربة الساتر قد انهالت علينا وأكسبتنا هيئة أخرى جديدة تثير الضحك، تذكرتُ كم كنت بانتظار هذه اللحظة ، الجميلة التعيسة، لحظة أتحول فيها بكل سهولة الى "واوي"! ..
ولكني .. وباستجابة من ارادتي التي شعرتُ بها تستقوي منذ الفجر، وقفتُ على الساتر الترابي ، رأتني مجموعة من الكلاب السائبة التي إرعبتها القذائف ، وهربتْ .. تطلعتُ الى الجبهة الساخنة على المدى البعيد ، وأيقظتُ الذئب الذي بداخلي بهدوء ، وعويتُ ،عويتُ كثيراً ، كثيراً جداً و... بحرقة !
إرسال تعليق
إرسال تعليق