من سلسلة قصص الحرب
قصة الشتات
كان يرتدي البزة العسكرية حتى يلتحق بالجيش لقد انتهت اجازته وعليه وداع زوجته الحامل بشهرها التاسع، وربما يأتي ليرى طفله وربما لا، هو والقدر المكتوب.
خرج ودموع والدته وزوجته الغزيرة تودعه وتتمنى عودته سالما، تسكب والدته جرة الماء بعد خروجه ليكون عائدا" قريبا".
ركب السيارة التي توصله الى محطة القطار حيث يلتحق بوحدته العسكرية (قوات النخبة) على الحدود بالخط الاول مع العدو, وصل مساءً الى وحدته العسكرية وكانت الوحدة منسحبة واصوات الانفجارات كبيرة، هرب مع اصدقائه الى المدينة المجاورة حيث كان عليهم ان يجدوا طريقاً ليبقوا يساندون قطاعات الجيش لكن العدو بهجومه اقترب اكثر من مناطق المدينة، وكان الاهالي يهربون من المدينة بأرواحهم فقط، بسياراتهم الخاصة ومن يهرب تاركاً منزله بكل ممتلكاته. (صلاح) واصدقاؤه دخلوا المنازل لتحميهم من الطلقات النارية لحين ان يحصلوا على خبر الانسحاب من المدينة ,المقاومة استمرت من الليل حتى الصباح لانهم تأكدوا من خلوها من الاهالي فكانت لهم حرية اطلاق النار ولا يهابون من شيء لانهم أمَّنوا على المدنيين انهم خرجوا بعيداً. كان الوضع يزداد سوءاً حتى حل الظلام جاءت اليهم الاوامر بالانسحاب بعيداً عن المدينة خرجوا الى ركوب السيارات ,وكان (صلاح) يجمع مابقي له من اغراض ليحملها ويخرج من المنزل حتى خرج وسارت بهم السيارة وهناك اخذته التفاتةٌ الى صبي يقف امام نافذة وحيدا" وينظر اليهم طلب من اصدقائه ان يقفوا ,فاخبروه بانه متوهم لا يوجد احد وهم مستعجلون عليهم الهرب والا قُتلوا ,فطلب منهم المغادرة وهو سيبقى هناك نزل بسرعة وركض الى المنزل والعدو يقترب اكثر واكثر شاهد طفلاً بعمر 4 سنوات وحيدا" ممسكاً بلعبته ويبكي من شدة الخوف اخذه بسرعة وركض وراء السيارة حتى وصل وهو معه يحضنه حتى لا يصاب باذى. كانت معجزة الهرب ولكنه سعد بإنقاذ الطفل وكان يقر بانه لن يسامح نفسه لو حدث له شيء ,وصلوا الى نقطة المفقودين وطلب اصدقاؤه منه ان يبقي الطفلَ معهم وكانت الاطفال بالمئات بهذا المكان وحالهم يرثى له، اغلبهم فاقدون لعوائلهم ,بقي لساعة ينظر الى الاطفال وهم يبكون والطفل بيديه كأنه زهرة لجماله حنَّ عليه وخاف ان يتركه ,سمع صوت امرة تنادي ولدي (يوسف) اين انت؟ وتبكي.. بحركة التفت اليها الطفل وهو يلوح بيديه، لكن (صلاح) كان قد عزم انه يأخذ الطفل معه، ليهتم به ولن يتركه هنا، والطفل يلوح لأمه من بعيد وهي لا تراه ,عاد الى السيارة وطلب من اصدقائه ان يوصلوه الى محطة القطار وهناك ركب عائدا" الى مدينته ربما فرصة الانسحاب تعطيه وقتاً ليرى طفله الوليد, وصل مساءً الى منزله ومعه الطفل الذي نام بأحضانه طيلة الطريق . وصل المنزل ودخل فاستقبلته امه تواسيه وتتمنى التعويض من الله له لان زوجته فقدت الطفل ,انزل (يوسف) وطلب من أمه ان تهتم به فهو جائع ويحتاج الى تغير ملابسه اخذته وهي تنظر إليه وتتسأل من يكون يا ترى؟ من اين جاء به ولدي؟! وصل الى زوجته وقبلها ومسح دموعها واخبرها بان الله عوضهم خيرا" فنظرت اليه بدهشة بماذا يا زوجي الحبيب؟! فقال لها انه وجد صبياً فقد عائلته والرب عوضهم به خيراً ليكون ولداٌ لهم ,فقامت وشاهدته وامسكت به. إنه جميل يا زوجي العزيز ,كم هو بريء سألته عن اسمه فاخبرها بانه (يوسف)، اعجبها الاسم واحتضنته لتقول له انها والدته وكان وجود الطفل معها قد انساها حزنها واصبحت أماً لصبي ب4 من عمره.
(صلاح) كان عليه العودة الى جبهات القتال ,وهكذا مرت الايام لتنتهي الحرب ويعم البلاد السلام ,وكان الصبي يكبر مع هذه العائلة واخذ منهم كل شيء ,وأنهى والده الآن الجيش وعليه ان يكون بالعمل المدني وكان يحب عمل (بيع وشراء) السيارات ,ففتح معرضاً للبيع والشراء وكان يأخذ معه (يوسف) الى العمل حتى كبر وأصبح شاباً وسيماً وصاحب مهنة مع عائلته التي كانت جزء منه ,أما عائلته الحقيقية فقد بقيت في نفس المدينة وأخوته اصبحوا شبابا، لكنه لا يعرفهم نسي كل شيء مجرد افكار عن الماضي وخيالات لأخوته ووالدته.
كان أخوه الأكبر محامياً يزور المدينة التي يعيش فيها ,قرر هو واصدقاؤه أن يسيروا في اسواق السيارات حتى يشتري احد اصدقائه سيارة ,وهو زبون للمحل الذي يعمل فيه (يوسف) ,دخلوا وألقوا التحية رحب بهم ومن بيهنم اخوه. أحس بشيء يحرك أنفاسه وعندما أمسك يديه كأنه يقول له انت جزء مني، الشبه الكبير لفت انتباه الاصدقاء لذلك, لكن الفرق المادي الكبير بين الاثنين جعلهم يصمتون ولا يحبذون الفكرة وبالأخص هو، الآن ابن تاجر كبير في العاصمة ,اشتروا السيارة وذهبوا للتحضير للعودة الى مدينتهم وكانت السيارة حديثة وجميلة اعجبتهم وعادوا بها وكان اخوه طوال الطريق يفكر به , أ يعقل انه اخوه المفقود من ايام الحرب وكيف اصبح هكذا يعيش في العاصمة ولماذا؟؟ كل هذه الاسئلة تراوده طوال الطريق لا يسمع شيئا من أحاديث اصدقائه ,حتى انتبه اليه صديقه وهو مبتعد عنهم فاراد أن يضربه حتى التفت يداه وأدى ذلك الى انجرافه بعيداً عن الطريق وانقلاب السيارة بهم ,تم نقلهم الى المشفى كانت الاصابات بسيطة ولكن السيارة دمرت بالكامل ,بعد ايام نسي موضوع اخيه ليفكر بموضوع صديقه. هو رفع قضية عليهم لعدم وجود اسس السلامة في السيارة ,كانت القضية بها تشهير وسوء سمعة على محل السيارات مما ادى بالسيد (صلاح) ان يفكر بأرسال ولده اليهم حتى يتم التفاهم والتعويض وانهاء القضية ,سافر (يوسف) ووصل مساءً ولم يخبر اخاع المحامي بقدومه حتى وصل الى البيت حسب العنوان الذي حصل عليه وتوقف قليلاً ينظر الى المنزل كانه يعرفه وذلك الشباك هناك فجاءة عادت به الافكار الى الماضي حتى صحي وعاد الى نفسه ليكمل ما طلب منه والده من امر, تقدم وطرق الباب سمع صوت سيدة تنادي من على الباب ؟ كان الصوت مسموع له سابقاً واحيا به طفولته الموجوعة وانحنى حتى يفتح الباب ورفع راسه وقال:- خالتي انا (يوسف) جاءت لمقابلة ولدك المحامي تسمحين لي بالدخول؟ فكانت لا تستطيع ان تنطق بكلمة، قلب الأم عرف انه طفلها الذي اختفى في الحرب، أيضا شكله واسمه ,ابتسم لها ودخل الى المنزل وهناك جلس واحضرت له الشاي حتى نادت على ولدها ليأتي لاستقبال الضيف، لم تتركه جلست معه تستفسر منه من يكون، وكان يلاطفها وينظر الى المنزل كأنه يعرفه وله فيه ذكريات ,وينظر الى والدته وهي تمعن النظر فيه ,حتى جاء ولدها المحامي والقى التحية وطلب الانفراد للحديث ,كان الحديث ايجابياً جداً واتفقا على ان يتم التعويض بشرط إلغاء الدعوة وعدم تشويه سمعة المحل، لان له زبائن محترمين وهم أناسٌ معروفون ,طلبت والدته ان يبقى الضيف على العشاء ,وافق بعد إلحاح عليه وحتى يثبت لهم النية الطيبة وكان عشاءً عائلياً لطيفاً، شعر به بارتياح وحب لهذه العائلة لكنه يجب ان يغادر ,شرب الشاي واستعد للمغادرة حتى سمع بخبر ان هناك عاصفة وامطار غزيرة وتوقفت حركة الطيران بين العاصمة والمدن الاخرى مما اضطر به للبقاء عندهم تلك الليلة ,كان الخبر جميلاً عليهم وبالصدفة جهزوا له غرفته مع اخوته نفسها التي كان يقطن فيها للنوم وهو طفل ,لم ينم طوال الليل بل كان يفكر بما حوله حتى جاء الصباح وتناول الافطار وقرر المغادرة ,وعندما خرج من المنزل كان والده عائداً من عمله فكر أنه احد اولاده فسلم عليه واجاب اهلا يا عم ,كانت هذه الكلمة قد نزلت على والده مثل الصاعقة فأجابه مابك يا ولدي تقول لأبيك يا عم؟! نظر إليه (يوسف) بدهشة وغادر ,كان الاب لا يرى بصورة جيدة ولكن وجه (يوسف) يشبه اخوته كثيراً ملامحه أيضا , دخل الاب الى المنزل مستغرباً مما حدث ويحاكي نفسه حتى اخبر زوجته فابتسمت وخبرته بمن يكون ,جلس الاولاد وأباهم، وكان كل حديثهم عنه ومن يكون. ابنهم المحامي اعطاهم تفاصيل من يكون وبقي في نفسهم شيء.
مرت الأيام وقررا ان يكون لهم فرع للشركة في المدينة. حضر (يوسف) مع عائلته للافتتاح كان الافتتاح باحتفالية جميلة وقرر ان يكون مدير الفرع صديق (صلاح) بالجيش وهو من كان معه في ذلك اليوم عندما وجد (يوسف) ,انتهى الحفل وغادروا عائدين الى العاصمة ,كان اخو (يوسف) يفكر بشراء سيارة فاتصل به واخبره بان يرغب بسيارة ذات سعر مناسب حسب وضعه المادي، وافق يوسف على طلبه واخبره بانه سوف يتصل بمدير فرعهم وهو يساعده وعليه الذهاب اليه ليأخذ منه ما يريد صباحاً. ذهب الى الشركة وكان بانتظاره مديرها بناءً على الاتصال الهاتفي ,واخبره بكل الانواع والاسعار وان عليه ان يختار ما يرغب حسب طلبه ,فالسيد (يوسف) يحترم ابناء مدينته ,هنا تفاجأ اخوه ,فقال له كيف نكون ابناء مدينته وهو من العاصمة؟! إبتسم المدير واخبره بالقصة كاملة ,ترك اخوه الشركة وعاد مسرعاً الى المنزل، وهنا اندهش المدير وتركه واخبر السيد بانه رفض استلام السيارة لأنه غير قادر على دفع سعرها. وصل الى المنزل وطلب من اهله جميعا ان يتجمعوا اندهشوا من طلبه، رغم ذلك تجمعوا واستمعوا الى حديثه ,سقطت الام مغشياً عليها والاب على الأرض لا يتحرك والباقون لا يعرفون ما يقولون. بعد ان فقدوا الامل ها هم يشاهدون فلذة كبدهم على قيد الحياة فطلبت أمهم ان يسافروا بها حالا الى العاصمة، سافروا مساءً فوصلوا صباحاً الى العاصمة واتجهوا مباشرة الى المنزل الذي يقطن فيع (يوسف)، كان منزلاً ضخماً جداً ,استقبلتهم والدته زوجة (صلاح) وسالتهم من يكونوا؟ طلبوا (صلاح) ليتحدث معهم ,استغربت ولكن كان لابد من الاجتماع والحديث في الأمر ,تجمعوا وجلسوا وبدأت ام (يوسف) تتحدث عن ذلك اليوم واخبرته بالاتي: (كان القصف على مدينتا مكثفا وزوجي في ساحة المعركة كنت وحيدة مع خمسة اولاد اصغرهم كان في يدي , الوقت منتصف الليل ولا اعرف ماذا افعل سوى ان اركض بهم لمن يساعدنا بالهرب، كان الظلام دامسا في تلك الليلة الموحشة، وانا اخذتهم ووقفت امام الباب حتى سقطت قنبلة قريبة من الشارع فزع اطفالي حتى وجدت سيارة خارجة أمسكت بها وركبت اطفالي فيها، كنت متأكدة منهم انهم الخمسة في السيارة حتى وصلت خارج المدينة ووجدت ان طفلي غير موجود منعوني من العودة، فالطرق مغلقة. فقط الجيش هناك، توسلتُ فطُلب مني ان اذهب الى مكان المفقودين وجدت مئات الاطفال هناك صرخت بأعلى صوتي باسمه لكن لم يجبْ أحد, كنت هناك لساعات طويلة ولم افقد الامل حتى اختفى جميع الاطفال، وبقيت انا وحيدة ويجب ان اعود للباقين الذين تركتهم عند جارتي ,وهكذا انا اريد ولدي (يوسف) وقف الجميع وكان (يوسف) مشتت الافكار و(صلاح) وزوجته بصدمة لانهم سوف يفقدون ولدهم ,(يوسف) عانق والديه الحقيقين، وطلب منهم ان يعطوه فرصة ليستقبل الوضع الجديد ,طلب منهم (صلاح) ان يكونوا ضيوفه وحاول ان يقدم لهم أي شيء مقابل ان يتركوا (يوسف) له وبرر لهم سبب أخذه وخوفه عليه، وانه اعتقد ان اهله قد قتلوا بالحرب وانه بحث كثيراً ولم يجد شيء.بقي الوضع متوتراً لأيام عديدة ,حتى قرر أهله العودة الى مدينتهم وانتظاره، أما (يوسف) بقي مشتت الافكار ما بين من من تكفل بتربيته واهله الحقيقيين ,كانت حياته تنهار بين يديه لا يعرف ماذا يفعل حتى قرر السفر لزيارة عائلته وينهي كل شيء, بكى والداه كثيراً عليه لأنهم توقعوه ذاهباً بلا عودة وذهب تعبهم كل السنين. وصل (يوسف) الى عائلته الحقيقة وقبل والديه وبقي عندهم لأيام حتى اخبرهم بان عليه العودة الى العاصمة ليكمل عمله هناك فغضبت أمه منه لأنه يريد ان يتركهم ويعود الى من رباه. لكنه هنا توقف وبقي ينظر اليها وأخبرها إنه لا يستطيع ان يعيش معهم لفترات طويلة، عليها ان تفهم انه عاش في طبقة مختلفة وأصبح له مجتمع مختلف لكنه يحبهم. هنا انتكست الام لأنه توضح لها أنهم فقراء والاخرين اغنياء، لكنه عانقها بقوة وقبلها وطلب منها ان تفهم معنى ان يكون لعشرين عاماً بعيداً عنهم. هناك له كل شيء ,لكنه وعدها ان ياتي شهرياً لزيارتهم ,خرج (يوسف) والشتات في افكاره وفي نفسه لايعرف ماذا يفعل سوى ما وصل اليه أن يكون بين العائلتين يقسم وقته لكل منهما جزء منه حتى يرضي الطرفين.
انتهى
نيسان نصري /العراق
إرسال تعليق
إرسال تعليق