وصايا الخلفاء رضي الله عنهم إلى قادة الجيوش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د . صالح العطوان الحيالي / العراق
إن امتثال قادة الجيوش لأوامر الخلفاء والأمراء، يعد سببًا رئيسيًّا من أسباب النصر، وقد وجهت هذه الأوامر أحيانًا على شكل وصايا، يقدمها الخليفة أو الأمير لطلائع جيشه مشافهة أو مكتوبة قبل المعركة أو في أثنائها؛ لكي يكونوا على بينة من أمرهم، وترشدهم هذه الوصايا إلى الطريق الأقوم.
نذكر من هذه الوصايا الحربية التي وردت في التراث العربي:
* وصية أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" لأسامة بن زيد حين سيره لقتال الروم.
* وصية أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" إلى خالد بن الوليد لما جهزه لقتال المرتدين.
* وصية عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" إلى سعد بن أبي وقاص لما وجهه لقتال الفرس.
* وصية علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" إلى معقل بن قيس ، حين أرسله إلى الشام في ثلاثة آلاف مقاتل.
*وصية علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" إلى عسكره قبيل معركة صفين.
* وصية جعفر المنصور إلى عيسى بن موسى لما وجهه لحرب بني عبدالله بن الحسن.
* وصية أبجر بن جابر لبنيه إذا لاقوا عدوهم.
* وصية أثر بن صيفي إلى بني تميم حين سارت إليهم بنو مذحج لقتالهم.
إن هذه الوصايا الحربية تحدثت عن الإعداد الجيد للمعركة، وعن أسباب النصر، وتضمنت تحذيرات وتنبيهات إلى القادة العسكريين، وسنتعرف فيما يلي على مضامين هذه الوصايا، وما دعت إليه من الإعداد المادي والمعنوي؛ لإحراز النصر في المعركة.
الإعداد للمعركة
ــــــــــــــــــــــــــــ لقد أمر الله تعالى المسلمين بإعداد العدة للحرب، والاستعداد لها عند ملاقاة العدو فقال سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال:60). ومن الإعداد للحرب: التهيئة لها باختيار القادة الأكفاء، ومعرفة أخبار العدو، وأخبار تحركاته، ومقدار قوته ونقاط ضعفه، وتهيئة أمراء الجند، ورفع الروح المعنوية لدى الجنود، وتزويدهم بالثقافة القتالية، وتحديد الظروف المناسبة للتحرك وبدء ساعة القتال.وعن معظم هذه المعاني أوصى الخليفة مروان بن محمد ابنه عبدالله عندما وجهه لقتال الضحاك في الجزيرة فقال له:
«تقدم في طلائعك، فإنها أول مكيدتك، ورأس حربك، ودعامة أمرك، فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالًا ذوي نجدة وبأس وصرامة وخبرة، حماة كفاة، قد صُلوا بالحرب، وتذاوقوا سجالها، وشربوا مرارًا كؤوسها. ثم أذْكِ عيونك على عدوك متطلعًا لعلم أحوالهم التي يتقلبون فيها، ومنازلهم التي هم بها، ومطامعهم التي قد مدوا أعناقهم نحوها، ومن أي الوجوه مأتاهم، أمِنْ قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد؟ أو الترغيب والإطماع؟ مبينًا في أمرك، متخيرًا في رؤيتك، مستمكنًا في رأيك، مستشيرًا لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم السن، وخطبتهم التجربة. وليكن في عسكرك مكبرون بالليل والنهار قبل المواقعة، وقوم موقوفون يحضونهم على القتال، ويحرضونهم على عدوهم، ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم، ويذكرونهم الجنة ودرجاتها، ونعيم أهلها وسكانها ويقولون: اذكروا الله يذكركم، واستنصروه ينصركم، والتجئوا إليه يمنعكم. وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتهيئة جندك، ووضعهم مواضعهم من راياتك، ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سن وتجربة ونجدة على التهيئة التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابه، فافعل إن شاء الله تعالى» . ومن الأمور الهامة في سير المعارك وانتصار الجيوش: الثبات في ساحات القتال، وأثناء مواجهة العدو، وعدم الفرار يوم الزحف، وهذا ما أوصى به أبجر بن جابر أبناءه بقوله: «يا بني، إن سركم طول البقاء، وحسن الثناء، والنكاية في الأعداء، فإذا استقبلتم الخميس (الجيش) فاستقبلوهم بوجوهكم، وإياكم أن تمنحوهم أكتافكم، فتطعنوا بالرماح في أدباركم، فإن أمثل القوم بُغْيةً: الصابر عند نزول الحقائق» .
أما عن بدء القتال، فقد أكد الإمام علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه- لأكثر من قائد: ألا يبدأ بالقتال مع العدو، لأن العدو قد يستسلم أو يميل إلى الصلح، أو يدخل في التفاوض، وقد تكون الحجة على الذي يبدأ بالعدوان. قال الإمام علي- كرم الله وجهه- لعسكره قبيل معركة صفين: «لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم» . وقال الإمام علي "رضي الله عنه" لمعقل بن قيس الرياحي حين أرسله إلى الشام: «ولا تقاتلن إلا من قاتلك» .وحدد بعضهم للجيش وقت المسير والتحرك، فإن لوقت التحرك أهمية كبيرة في الإعداد للمعركة وسيرها، وحبذوا التحرك في النهار والإقامة في الليل، ولاسيما أنهم في زمن لم تكن فيه إضاءة وكواشف ليلية، وقد جعل الله الليل للسكن والراحة. فقد أشار علي "رضي الله عنه" على معقل قائلًا: «ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكنًا وقدره مقامًا لا ظعنًا، فأرح فيه بدنك، وروح ظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السحر أو حين ينفجر الفجر، فسر علىبركة الله» وحدد علي (رض) لقائده العسكري معقل مكان وقوفه من العدو قبل المعركة فقال: «فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطًا، ولا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد ممن يهاب البأس حتى يأتيك أمري، ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم» .
أسباب النصر أثناء المعركة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن أغلب الخلفاء وزعماء الأمم لديهم خبرة عسكرية، وقد يكون بعضهم قد خاض حروبًا عديدة قبل أن يتقلد منصبه في قيادة الأمة، لذلك تعد وصاياهم نابعة عن خبرة وتجربة قبل أن تكون تقديرية تصورية، فقد أوصى الخلفاء والأمراء قادة جيوشهم والجنود بتقوى الله والصبر والثبات، وذكر الله والتوكل عليه في أثناء المعركة، فقد أمر الإمام علي "رضي الله عنه" معقل بتقوى الله عند لقاء العدو فقال له: «اتق الله الذي لابدَّ لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه» . وحث سيدنا أبو بكر الصديق "رضي الله عنه" خالد بن الوليد على تقوى الله مخاطبًا إياه: «يا خالد، عليك بتقوى الله والرفق بمن معك من رعيتك» .وأكد مروان بن محمد الحرص على التقوى عندما أوصى ابنه بقوله: «فإذا قضيت نحو عدوك، واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي به منالة الظفر: تقوى الله- عز وجل- مستشعرًا لها بمراقبته والاعتصام بطاعته، متبعًا لأمره، مجتنبًا لسخطه، محتذيًا سنته، والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده، وتعدي شرائعه، متوكلًا عليه، واثقًا بنصره، فيما توجهت نحوه، متبرئًا من الحول والقوة فيما نالك من ظفر، وتلقاك من عز» . وإلى جانب التقوى يعدٌّ الصبر سلاحًا قويًّا في ثبات الجنود، فالجيش الذي لا يصبر جنوده على المحن والجراح ينهزم، لذلك نجد سيدنا عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" يوصي سعد بن أبي وقاص "رضي الله عنه" عندما وجهه إلى قتال الفرس بالصبر قائلًا: «.. الصبرَ الصبرَ على ما أصابك، تجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين، في طاعته واجتناب معصيته» . والصبر يحتاج إلى استعانة الجند بالله تعالى على قتال العدو، وعليهم أن يلجأوا إليه بالدعاء، ويتوكلوا عليه كي ينصرهم، وقد بيَّن ذلك أبوبكر الصديق "رضي الله عنه" لخالد بن الوليد "رضي الله عنه" عندما قاتل مسيلمة الكذاب وأهل الردة: «استعن بالله على قتالهم، فإنه قد بلغني أنهم رجعوا بأسرهم، فإن كفاك الله الضاحية، فامض إلى أهل اليمامة، سِرْ على بركة الله» . ومما يُثَبِّتُ الجنود في أرض المعركة، ويبعث الطمأنينة في نفوسهم ذكر الله تعالى، لذلك حضت الوصايا قادة الجيش والجنود على الإكثار من التكبير والتسبيح والدعاء؛ لكي يزداد ثباتهم، فقد كان رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يدعو الله كثيرًا بضراعة قبل المعركة وأثناءها. وقد مضى الخلفاء وغيرهم من الأمراء على هذه السنة، فتجدهم يوصون قادة الجيوش بذكر الله والدعاء، لما لهما من أهمية في صمود المقاتلين، فاتصالهم بالله تعالى في أرض المعركة يقوي عزيمتهم، ويزيد من إيمانهم وثباتهم.
ومن الوصايا التي جاء فيها الأمر بذكر الله والدعاء وصية مروان بن محمد إلى ابنه، إذ طلب منه أن يأمر جنده بالتكبير والتسبيح والدعاء برسالته التي وجهها إليه: «مُرْ جندك بالصمت وقلة التلفت عند المصاولة، وكثرة التكبير في نفوسهم، والتسبيح بضمائرهم، وألا يظهروا تكبيرًا إلا في الكرات والحملات، وعند كل زلفة يزدلفونها، وأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن، وليذكروا الله في أنفسهم، ويسألوه نصره، وإعزازهم، وليكثروا من: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي، واكفنا شوكتهم المستجدة، وأيدنا بملائكتك الغالبين، واعصمنا بقوتك من الفشل والعجز، إنك أرحم الراحمين» .
ومن أسباب النصر: حسن معاملة القائد لجنوده وتعاونه معهم، واستشارتهم، فكلما كان القائد قريبًا من جنده، يرفق بهم، ويسأل عن أحوالهم، ويستشيرهم داخل المعركة وخارجها، كانوا أقوياء يقاتلون صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص، ويلتفون حول قائدهم يأتمرون بأمره، ويكونون رهن إشارته. ولقد فطن لهذا الأمر سيدنا أبوبكر الصديق "رضي الله عنه" ، فأوصى خالد بن الوليد "رضي الله عنه" بذلك عندما أرسله إلى المعركة قائلًا: «يا خالد، عليك بتقوى الله والرفق بمن معك من رعيتك، فإن أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أهل السابقة من المهاجرين والأنصار، فشاورهم فيما نزل بك ثم لا تخالفهم» .
تحذيرات ونواهٍ للجيوش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن الجيوش التي تدافع عن الحق وتحمي أرضها وتدفع العدو الظالم، عليها أن تتمسك بأخلاق المقاتلين البواسل، فإذا كان الهدف هو دحر العدو وقتال جنوده، والوقوف في وجهه، فليس هنالك من حاجة للتدمير والقتال غير المشروع. ولقد حرص المسلمون على أن تكون حروبهم شريفة بحيث يقفون للعدو بالمرصاد، ويكبدونه خسائر فادحة، ويدحرونه في أرض المعركة، إلا أنهم لا يقتلون طفلًا ولا امرأة ولا شيخًا، ولا يهلكون الحرث والنسل، ولا يحرقون المزروعات، ولا يقتلون الحيوانات.
أما غير المسلمين كالصهاينة والمستعمرين، فإنهم في حربهم يحرقون الأخضر واليابس، ويقتلون كل من يجدونه بآلتهم الحربية الفتاكة. وقد تعلَّم المسلمون هذه الأخلاق الرفيعة من الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" ، ومن الخلفاء الراشدين الذين كانوا ينهون الجيوش الإسلامية عن ارتكاب مثل هذه الجرائم الشنيعة.فعندما وجه خليفة رسول الله الصديق أسامة بن زيد لقتال الروم قال له ولمن معه: «يأيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تقعروا (تقتلعوا) نخلًا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له» . لذلك نجد كثيرًا من البلاد التي فتحها المسلمون، رحب أهلها بالفاتحين لما وجدوا عندهم من رحمة ورأفة وحسن معاملة، لذلك صدق من قال: «ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب»
وفي الختام نؤكد أن هذه الوصايا التي أوصى بها الخلفاء قادة الجيوش، تصلح لأن تكون قوانين لجيوش العالم على مدار التاريخ؛ لما فيها من دقة وصواب وحكمة، وهي تصلح لكل زمان ومكان، وفيها من الدروس ما يُعْتَمد في الإعداد والاستعداد، وما يفيد المقاتلين في ساحة المعركة، مما يدل على عبقرية قائليها، ونظرتهم الصائبة، وخبرتهم العميقة في فنون الحرب وإدارة المعارك ..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
إرسال تعليق
إرسال تعليق