الـــــــــــــــــرجل الـــــــــــــــــــــذئب
قصة قصيـــرة
حسن هادي الشمري
لا زلت أتذكر حكاية جدي رحمه الله تعالى ، والذي انتقل إلى رحاب ربه وفي جواره بعد أن جاوز عمرة المائة عام بكثير ، حيث قال لنا يومها إنه كان صبياً يفقه كل الأشياء أيام السلطان العثماني عبد الحميد ولا زال يتذكرها .... حدثنا ونحن صغاراً عن حكايات كثيرة خلال ليال الشتاء الطوال حيث كنا نحن الأخوة ننام في غرفة واحدة وعلى فراش مشترك ينام هو في المنتصف ونتوزع نحن الستة بالتساوي على يمينه وشماله وكنت دائماً الأقرب منهم إليه من جهة اليمين , وبعد أن نطفيء المصباح يبدأ بالحديث كنا ننسجم مع حكاياته كانت بعضها تدخل السرور في قلوبنا وبعضها تملأ نفوسنا خوفاً وتترقرق الدموع في عيوننا حتى إنني كنت أمسح دموعي بيدي الصغيرة بين الحين والآخر وكنت متأكداً إن أخوتي يفعلون الشيء نفسه , لكننا لم نعلن عن خوفنا بل كنا نتظاهر بالشجاعة ونحن نصغى لحكاياته بصمت .... اغلب حكاياته أنسانيها الزمن وسنوات العمر التي دارت بي مسرعة مع عقارب الساعة التي لن تعود يوماً للدوران في الاتجاه المعاكس والتي أضعت أكثرها خلف قضبان السجون وفي متاريس الحروب العبثية أو كما عجلات السيارة التي تسير لتصل إلى الهدف التي انطلقت للوصول إليه رغم إني فقدت كل اتجاهاتي ولم أصل حتى اليوم لهدفي الذي رسمته لنفسي , وبعضها لا زلت أذكر أنصافها .... إلا حكاية واحدة استوطنت ذاكرتي رغم مرور العشرات من السنين ألا وهي حكاية ذلك الرجل الذي أسمه (راهي ) والذي كان يسكن مع جدي وعائلته في قرية تسمى ( المعيّل ) وهي قرية من قرى محافظة ميسان التي كانت يومها تسمى لواء العمارة والتي تقع في جهة الشرق منها وراهي هذا كان ( زلمة ليل ) كما قال جدي وكان أهل القرية يسمونه ( الذيب ) لقوته وشجاعته وخفته وسرعته في كل ما يقوم به حتى في عمليات السطو على البيوت وسرقة ما تقع عليه عيناه لكنه كان وكما يعتقد جدي والآخرون الذين يعرفونه إنه حرامي صاحب مبدأ إذ أخذ على نفسه عهداً أن لا يسرق من بيوت قريته ولا من بيوت القرى المجاورة لها ... وكان دائماً يتمنطق بحزام عريض من الجلد ويعلق ما بين حزامه وبطنه فوق ثوبه الأسود خنجراً معقوفاً صقيلاً ليس لأحد خنجر مثله ورثه عن أبيه عن جده .... ذات ليلة شتائية ممطرة حالكة الظلام سطى على بيت في قرية تبعد عن القرية التي يسكنها مسافة ساعات سيراً على فرسه التي كان يمتطيها دائماً في سفره وفي عمليات السطو ليحمل عليها ما يحصل عليه من الأشياء التي يسرقها , حيث كان وكما قال لنا جدي يربطها من لجامها بوتد حديدي يثبته في الأرض على مسافة تتطلب المشي نصف ساعة أو أكثر للوصول الى القرية التي يسطو على أحد بيوتها.... بعد دخوله البيت جمع ما يمكن جمعه في غطاء منسوج من الصوف وشده بقوة على أمل أن يحمله على رأسه ويتسلل بهدوء بما جمع من أشياء .... حينها حصلت مفاجئة لم تكن في حسبانه إذ استيقظت امرأة في ذلك البيت على صوت بكاء طفلها الصغير الذي لم يبلغ السادسة من عمره بعد والذي أيقظه كابوس مخيف أو حاجة أخرى لا يدري , فوجئت المرأة أيضاً والتي عرف في ما بعد إنها أرملة تعيل ثلاثة أيتام وإذا بها تراه على ضوء الفانوس النفطي وقد جمع حاجات بيتها البسيطة انتابها شيء من الخوف والفزع لكنها تداركت نفسها وهي القروية التي عركتها الأيام وسنون العوز والوحدة فما كان منها إلا أن طلبت من طفلها الصغير الكف عن البكاء وانتظارها .. قائلة له يا بني دعني أساعد خالك في حمل أشيائه وأعود لك بعدها ، ما أن سمع راهي قولها هذا حتى تسمر في مكانه وأصيب بنوبة من الخرس وبدأ يتصبب عرقاً في عز البرد وتمنى لو أن يستل خنجره ليغرزه في صدره من جهة القلب , لكنه تمالك نفسه واستدار بصمت وهو يشعر وكأن قدميه ربطتا بسلاسل من حديد تاركا ً خلفه ما جمعه في مكانها حتى وصل بشق الأنفس إلى فرسه وعاد إلى بيته يحمل الندم على كتف والخجل على الكتف الآخر وحين وصوله إلى بيته رمى بنفسه على سريره الخشبي وطلب من زوجته أن تلقي على جسده الذي صار بارداً كما الثلج ما عندهم من أغطية قامت بعمل ما طلبه منها وهي مستغربة من حالة زوجها الذئب الذي لم تراه ذات مرة وهو يرتجف كما السعفة في يوم عاصف ظل على حالته هذه نائماً في فراشه لمدة سبعة أيام بالتمام والكمال لا ينهض من نومه إلا لحاجات يقضيها أو لتناول القليل من الطعام ليبقيه على قيد الحياة , في اليوم الثامن لملم أشلائه ونهض بصعوبة من سريره تناول معولاً صدأ كان يحتفظ به في بيته وراح يحفر الأرض في ساحة بيته الواسعة بما بقيت لديه من قوة بعد أن أكمل الحفرة ألقى خنجره فيها وأهال عليه التراب عمل هذا وأبناء قريته الذين تجمعوا حوله ينظرون إليه بذهول وتعجب بعد أن انتهى من عمله هذا روى لهم ما حصل له تلك الليلة وأعلن توبته أمام الله وأمامهم ... وصار يصعد ثلاث مرات كل يوم فوق سطح غرفته الطينية ليؤذن للصلاة الخمسة في مواعيدها وفي نهاية كل أسبوع يحمل ما يمكنه حمله من تمر وطحين ومواد أخرى على ظهر فرسه ويذهب بها إلى بيت تلك المرأة التي صارت له أختاً وصار هو خالاً لأبنائها الثلاثة .
إرسال تعليق
إرسال تعليق