الحمل والطفل
pregnancy

0

حماة ..أمّ النواعير وموطنها الأقدم عالمياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د . صالح العطوان الحيالي
لا يستطيع المتتبع لأساليب السقاية قديماً وحديثاً إلا أن يقف منبهراً أمام تلك الأفلاك الدائرات جالبة الخير وناثرة المسرات ، فهي في دورانها الدائم تساير الزمن وترافق الأيام وفي أنينها تحكي المدنيات وقصة الحضارات وفي مائها المتدفق من بين حجرياتها تروي قصة الأجيال وكفاح الإنسان من أجل البقاء .
الناعورة رمز الخير والسحر والجمال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمام أنين تلك الآلات يتذكر الغرباء الأهل ويصغي السائح لموسيقاها فيميس طرباً ويبكي العاشق المحزون لبكائها فتهتاج عليه الأشجان وتثار كوامن نفسه وتهتز لصوتها الأبدان لقد قامت الحضارة في العالم القديم على أودية الأنهار وكانت الزراعة عماد المدنية ومعيار التقدم وأصبحت عملية تطويع الأنهار واستجلاب المياه العذبة رمز المنعة والرفاه والقدرة على ترويض الطبيعة ،أسهم العرب القدماء إسهامات جليّة لا تخفى على منصف في تطوير أساليب الري وابتكار أعظم الطرق لنشر النماء والخير فقامت على أرضهم أعظم الحضارات وازدهرت المحصولات... فمن جنات اليمن السعيد حيث سد مأرب هذه التجربة الرائدة التي تم تقديمها للبشرية إلى أعظم شبكة للري عرفها التاريخ في تلك الجنة الوارفة على نهر العاصي في مدينة حماة الشام حيث ابتكر ابن هذه المدينة أعظم آلة لجر الماء من المنخفضات إلى الأراضي المرتفعة ثم ليجمع أهل الأندلس كل هذه المنجزات في تجربة لم يعرف العالم لها مثيلاً فمن السدود إلى السواقي والنواعير والمجاري .... أساليب وآلات جلبت الخير والنماء وبثت الجمال والسحر في كل مكان
فكرة الناعورة: (الفكرة والابتكار والتسمية)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الناعورة اسم مشتق من النعير وهو صوتها المأخوذ من (نعرت الدابة) أي أطلقت صوتاً (وخاصة عند بذلها للجهد المكثف) والنعير صوت من أقصى الأنف وهي تدعى باللاتينية أيضاً بالناعورة ، والناعورة آلة مائية ذات حركة دائمة معدة لرفع الماء مؤلفة من أخشاب ومسامير حديدية، تغطس في الماء منقلبة فارغة صناديقها وترتفع ملآنة بالماء لتصبه في قناة ذات قناطر متعددة تسقي البساتين والمزارع وحتى الدور والجوامع والخانات والمقاهي
تختلف المصادر التاريخية في تحديد عمر الناعورة وتاريخ وجودها لكنها تتفق في كون مدينة حماة المعقل الأول لها وتحيل بعض المصادر ابتكارها على يد أبناء المدينة إلى العهود الرومانية لكن شواهد كثيرة تدل على أن أسلوب الري بالناعورة يعود لفترات تسبق الرومان بعقود وقد يكون العهد الروماني هو العهد الذي شهد اكتمال شكل الناعورة على الصورة التي هي عليه اليوم، ويرجح أن تكون الفترة الحثية أو الآرامية هي المؤهلة لظهور الناعورة الأول أي حوالي 1450 قبل الميلاد
كانت النواعير حاجة ملحة في أودية الأنهار القديمة نظراً لأن مجرى هذه الأنهار قد تعمق مع تقادم الزمان وأصبحت عملية استجرار المياه لسقاية البساتين ونقلها إلى السكان البعيدين عن النهر عملية صعبة إن لم نقل مستحيلة .. لذلك كان لا بدّ من دراسة طريقة مجدية لاستجرار المياه من الأنهار الكبيرة ورفعها من المناطق المنخفضة إلى المرتفعات داخل مدن الحضارات
كانت فكرة أبناء حماة تقوم على تطويع النهر ورفع المياه بواسطة هذه الآلات العظيمة إلى سواقي حجرية عالية حسب حاجة السكان المحليين حتى أن كثيراً من الباحثين أرجع تسمية نهر العاصي إلى استعصائه عن السقاية كما يقول الشاعر الدمشقي الشهير الشيخ عبد الغني النابلسي
عصى فلم يسق أرضاً من بلادهم إلا بحيلة وسواس النواعير
وللنواعير أسماء كثيرة وردت في قصائد الشعراء منها: الحنانات والدوائر والدواليب والسواقي والجواري وبعضهم سماها بالعجائز...لكن نعير وعنين الناعورة هو الذي جعل من اسمها التي هي عليه اليوم أشهر الأسماء، هذا الصوت الناتج عن أزيز وصرير أخشابها وخاصة من احتكاك القلب الذي هو مركز الناعورة وقطبها الذي تدور عليه والحامل لثقل الناعورة المبللة بالماء بل المنقوعة فيه والماء الذي تحمله في صناديقها ... ولولا أن الماء يتصبب من الناعورة وقلبها الدائر- والمصنوع من الجوز أو ما يدانيه قساوة - لاحترق القلب بعد مدة قصيرة فهو كالبكاء الذي يطفئ ما يتأجج بالفؤاد الذي من الحزن والحب والبعد والشوق وغيره وما أجمل قول الشاعر الحموي عندما جسد هذه الصورة البيانية بقوله
وعاص رحيب الصدر قد خرّ طائعاً دولابــه كالقـــلب يخفق في الصــدر
وقد أشبه الخنساء نوحاً وأنّــــــــــــة وها دمعه قد جاء يجري على صخر
مدن النواعير مدن الحضارة والنماء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تنتشر النواعير على حزام واسع من المدن عبر العالم فمن نواعير شنغهاي الهوائية والمائية إلى نواعير مدينة هيت في العراق الأوسط مروراً بأم النواعير مدينة حماة في سورية فنابلس فمصر وصولا إلى قرطبة وأواسط ألمانيا من حماة كانت الانطلاقة الأولى ... فبعد أن قام تحوتمس الأول باحتلال المدينة قام الفراعنة بنقل تقنية النواعير إلى أراضي الجيزة ولكن بتقنية أقل جودة مما هو الحال عليه في حماة لقلة الأخشاب المصرية ما استدعى اعتمادهم على الفخار الصلصالي لإنتاج جرار كبيرة تربط ببدن الناعورة للتقليل من استخدام الأخشاب، وعلى غرار ما فعل الفراعنة قام الصليبيون بنقل هذه التقنية إلى وديان الأنهار في بلادهم وقد ذكر المؤرخ (super nhaimفي كتابة ‘’المعلمة الإسلامية ‘’نواعير حماة فقال :
( إن فيما اقتبسه الصليبيون من بلاد الشام صنع النواعير أيضاً فأوجدوا في ألمانيا في واد صغير في فرانكفورت على مقربة من بايروت نواعير كالتي في حماة لا تزال دائرة)
كذلك أثناء الغزو المغولي للبلاد الإسلامية فقد استقرت مجموعات كبيرة من المهاجرين الفارين من أهل وادي الرافدين في مدينة حماة فكثيراً ما طالعتنا سجلات المحاكم الشرعية بكنيات تنتسب إلى وادي الفرات الأوسط: كالهيتي والفلوجي وحتى الموصلي والتكريتي ومن حماة انتقلت التقنية مرة أخرى تنثر الخير في سهول هيت الجميلة مع عودة المهاجرين إلى مدنهم الأصلية وتبقى نواعير قرطبة أكثر النواعير شبهاً بالناعورة الحموية وأقربها اكتمالاً ومطابقة لها من حيث الأجزاء ومشابهة الطبيعة والموقع: فقرطبة مبنية على سفح هضبة وفي واد نهري منحدر شبيه بالموقع الذي تقبع حماة عليه اليوم وهذا ما حاول ابن سعيد الأندلسي الرحالة الأندلسي الشهير أن يدلل عليه بقوله: ‘’ وفي حماة مسحة أندلسية
حماة أمّ النواعير
ــــــــــــــــــــــــ ذات يوم كان التاريخ نائماً والعالم يمور بحكايات الجمال، ذات يوم كانت الأرض ربيعا لا ينتهي والزهر أغنية التراب والماء والنسيم أرجوحة، ذات يوم استراح التاريخ في حماة، فترك صداه يجلجل في الوادي كأنه سيمفونية ألوان وألحان، إنه صدى الأزمنة السحيقة، إنه صوت النواعير الساحرة، إنه أحلى ترنيمة ولا تزال تتردد منذ ثلاثة آلاف عام بحق دعيت حماة مدينة النواعير وذلك لاختصاصها بها ولكونها أمّاً للفكرة ولكثرتها بها دون سائر البلدان فنواعيرها منذ القدم سارت بها الركبان وتناقلت أخبارها الأقطار وما ذكرت حماة إلا وذكرت النواعير ولو ضمناً وذلك لأزلية الارتباط وقدم الصحبة بالزمان في العهود الإسلامية أصبح للنواعير مؤسسة خاصة ترعى شؤون الصنعة وتوزيع الأدوار ثم لتتطور هذه المؤسسة في العهود المملوكية والعثمانية فيصبح لكل ناعورة متولٍ خاص يرعى شؤونها ويشرف على إصلاحها وتوزيع مياهها وضبط نفقاتها بل وتملكتها مؤسسات وأشخاص وتسابق الأمراء لترميمها وأوقفوها على ذراريهم فالاستثمار في النواعير استثمار رابح
ولقد ارتبطت نواعير حماة ارتباطاً وثيقاً مع سكانها حتى أنه إذا توقفت إحداها للتصليح أو لسبب ما فإن جيرانها الساكنين بقربها يحسون وكأنهم قد فقدوا شيئاً من حياتهم فيضجرون ويقلقون بل ولا يستطيعون النوم ويشعرون بصمت عميق مخيف حتى إذا عادت إلى دورانها بألحانها العذبة المحببة عاد لهم شعورهم وبدأت الحياة تدب في عروقهم وقد عبر عن صوتها (jen haward ) بما حاكى به نفسه فقال :
‘’ يصدر من ضفاف النهر صوت لا يتوقف هو أشبه ما يكون بصرير عربة تجرها الثيران ينفذ إلى الشوارع الضيقة ويتخلل المدينة بكاملها حتى يبلغ مداه إلى القلعة ... ذلك هو صوت نواعير حماة نداء يكاد يشبه نداء المؤذن إلى الصلاة، أجشّ حزين وخالد’’
ويقال: إن الناعورة تعطي بين 120 – 170 مقاماً موسيقياً لكن الحقيقة أن موسيقاراً ألمانيا اكتشف أن عدد المقامات أكثر من هذا بكثير ودعم نظريته بتأليف سمفونية رائعة استخدم فيها صوت الناعورة فجاءت متناسبة مع ما يختلج ويحاكي النفس ويدخل لمجاهلها فترى فيها الهتاف والحداء والأنين والشدو وترى الرهبة .....

إرسال تعليق

 
Top