القاصة التي عَرِفَت كيف توظف كل التقنيات الكتابية الإبداعية بطريقة رائعة
( للخوف ظل طويل ) مجموعة قصصية للقاصة والشاعرة منى الصراف صدرت هذا العام واحتوت على ( 40 ) قصة قصيرة وقصص قصيرة جدا وتضمنت مقدمة للناقد والأديب العراقي رائد مهدي .
لطالما امتعتنا وسحرتنا القصص القصيرة ، فهي من أصعب وأدق أنواع الكتابات ، القصة القصيرة هي الإعتناء بتتبع أثر كل لحظة انسانية شديدة التعقيد والحميمية مستخلصة من اعماق الروح البشرية متفاعلة مع كل مايحيط بها وهي بالتالي وجهة نظر ذاتية تتخذ موقفها من الحياة ، إذ ليس من السهل مكاشفة الذات بما تعاني من اوضاع سلبية لاسيما على الصعيد النفسي او المعنوي نتيجة ضغوط خارجية قاهرة تحيط بها وتهمش الجانب الإيجابي من ذلك الصعيد الذي يمثل جانباً مهماً من تشكيل الذات ووجودها ، بل هو الذي يميزها من الكائنات الأخرى ويرسم ملامح فاعليتها في الحياة .
(( نحن من نصنع الأحلام في قلب طفل ونعلمه ان لاشيء مستحيل ! ومصباح سحري رغبنا جميعا في امتلاكه لنصحوا بعدها ونتعلم الصمود بهذه القسوة .
أحلام بسيطة جداً قد تبدو للبعض .... مثل حقيبة مدرسية بعجلات لأنه كان يشكو من ثقل هذه الحقيبة وطريق مدرسته لم يكن بالقريب طفل لم يتجاوز التاسعة من عمره نحيف رقيق وزن حقيبته تعادل ضعف وزنه مرتين . واحيانا اخرى كان يرغب في زي مدرسي جديد كره انتظار ذلك الزي حين يغسل وهو ينظر الى الحبل بتوسل كي يسرع في تنشيف ملابسه . ( قصة ليلة صيف ص 30 )) .
القصة القصيرة صورة تقود معرفياً الى الكشف عن حقائق موجودة ولا ترجع هذه الحقائق الى خصائص فردية تتصل بالإنسان الفرد بل تتصل بالنوع او الجماعة ، فهي تكشف عن ابعاد معرفية تتصل بالأفكار الذهنية المجردة ، وهذه الأبعاد حقائق موجودة تسهم في تمكين المتلقي من وعي واقعه ، والمجموعة امتازت بالمزج بين اللوحات الواقعية للحياة اليومية بالخيال احياناً وبالذاتية احياناً اخرى ، وبهذا التحليل الجدلي يمكن اعتباره مواصلة لنشاط الحياة الواقعية .
(( كان اكبر لعنة ممكن ان تصيبها هو الخوف حين تلتزم الصمت في ضجيج الزحام وهي تنزوي تحت ظلال عالم الأمس ، حتى الشجاعة اصبحت عبئا ثقيلا على كاهلها . حياة طويلة مضنية وطريق امتلأت بالعثرات ، بحكمتها جعلتها درب نور لعوالم نسجتها مخيلتها .
كانت تؤمن ان قلبا واحدا يعشقها يكفيها ان تستمر في العيش ، والدنيا دائمة الدوران فكل شيء في الآخر سيعود لها .
جسدها قريب من التعفن ، ذهب اخضراره ، وذاكرة قوية مريرة تشعرها انها اشقى من في الأرض . وسعادتها الكبرى هو حديثها مع الوسادة . ( قصة ترانيم وسادة ص 103 )) .
الحياة الحقيقية الواقعية معرضة دائماً للتزوير لهذا تأتي الكتابة اللاواقعية كمحاولة لتعرية الأقنعة ، كما ان الحالة التأملية جداً عميقة ومصورة بطريقة سينمائية حركية ، تُدخل القارىء في جو القصة وكأنه يعيشها ويشاهدها، لذلك ان اصل اي تأليف هو تجربة مارسها المؤلف ، وقد تكون مما صادفه في حياته وقد تكون قصة سمعها ، او خيالاً او وهماً خطر في فكره ، ولكنها على كل حال يجب ان تكون تجربة قد ملكت عليها حسها وحملتها على الكلام ، والعلاقة المتبادلة بين الشخصية الابداعية والشخصية الخاصة يمكن ان تتخذ اشكالاً متنوعة ، وليس كل الخاصيات المتأصلة في شخصية الكاتبة الخاصة نجد تعبيرها في نتاجها.
(( كلما ابتعدت وتعودت الانطلاق بعيدا عن الأسرة ازدادت قوتي وقابليتي للمعرفة اكثر ، فالأشجار التي تواجه الرياح في اطراف الغابة اكثر قوة وصلابة من تلك التي في منتصفها ، فتتوغل جذورها في التربة عميقا واغصانها تحمل اوراقا اكثر ، وفروعها ستكون متشابكة واغزر ثمارا من تلك التي وسط الغابة .
فتاة في الثامنة عشرة من عمرها ، لديها جذور التمرد الفردي على كل مظاهر الزيف الإجتماعي ، وامنيات لجعل احلامها حقيقية جميلة ، تتحدى بها كل المعوقات التي تسرق منها هذا الجمال . ( قصة امنيات عرجاء . ص 128 )) .
الحبكة تعتمد على الشخصية لأن ردّ فعل القراء يختلف في الظرف الواحد وايضا يعتمد الاطار العام عليها لسببين ، الاول صياغة الشخصية والثاني التلاؤم للاحداث في الواقع لايمكن الحصول على قصص خيالية على الإطلاق لولا الشخصيات الواقعية والمثيرة للإهتمام ، إذاً تعتبر الشخصية هي المفتاح ، كما تعتمد الحبكة عليها لأن رد فعل القراء يختلف في الظرف الواحد كون لغة الوصف تستمد نكهتها من الواصف ، لذلك فالتركيز على الشخصية والقيام بخيارات الحبك التي تكوّنها وبالتحول اليها وبترجمة جميع الإنفعالات . الذاتية التي يكون لها تأثير خيالي كبير.
(( حين نريد ان نحفر قبرا لعدو ستحفر حربنا عشرين قبرا بظلاله من الناس الأبرياء .
ان بين العدو وحربنا شيئا مشتركا هو القتل . وحين يقتل المدنيون عن غير قصد نصفهم بالخسائر المحاذية لتصبح الخسائر المحاذية تلك رقما اضخم بكثير من قوائم موتى العدو ، وتصبح عندها لاعدالة بتلك القضية وهذه الحرب . حين هطلت القنابل على مقربة من بيتي وصراخ اولادي لم يكن لي الخيار سوى الفرار . ( قصة سلاح بارد . ص 89 . )) .
في القصة القصيرة الجوهر يتمثل مرّة بالواقع ومرّة بالأبعاد المعرفية التي تنطوي عليها نظرية الجنس الأدبي ، إذ يتمثل العرضي بالخيال الذي يفتقر الى الصحة في اغلب الأحيان، فهو الإطار الخارجي الذي يعمل من خلاله القاص الى ترتيب جوهره ، فهي في مستوى محاكاة ماهو كائن تشبه النمط الكائن في الواقع الخارجي الذي لاتتحقق أبعاده لمجرد كونه كائناً في الواقع وتحاكي النمط واقعيا ليقترب هذا التفكير من المدركات الذهنية المجردة التي تتمثل في قيمة خلقية محكمة بالعقل أو نظرية فلسفية تتمحور عن مكنون الشخصية في القصة .
(( نساء احترفن القفز فوق اسوار المدن ، ينظرن الى عينيك فيتغير بك الزمان والمكان ، هاربات من اساطير قديمة ، سقطن من مناقير طيور مهاجرة ، يجمعن الأمنيات وينثرنها بين المدن والطرقات راحلات دائما هن راحلات يحملن الأماني والحكايات وبشارا تفيض بالنشوة تدغدغ الأحلام يبعن لك الآمال من دخان تعيد لك ذكريات عتيقة من ركام السنين وبصيص امل وسط الظلام ، يرسمن كما يشأن لك الاسفار على الغيوم ، يخادن المطر ، سروب لحمائم تحمل البشارة لمن ضاقت به الحياة كلماتهن سحر وبعض حظوظ للشجن ، نبوءآت طريقها الفرح . ( قصة بائعات الأماني ص 45 . )) .
التصوير والوصف مجرد آلة يحملها القاص والنقل الحرفي يجعلهما مرآته التي تحدد الكيفية التي يتم بها تشكيل القصة القصيرة ، كما انها قادرة على عكس الصورة من الخارج ، إذ تعمد الى تثبيتها دون تمثل لما يحدث فيها من تفاعل ، هي غوص في اعماق الواقع المعاش والأشياء وكشف عن العلاقات الخفية التي تتحكم بمصير الإنسان وحركته . والقاصة منى في هذه المجموعة استطاعت ان تكوّن إثارة سريعة وواقعاً يشبه واقع حياتنا وجعلتنا نستمتع بالقراءة وفي ذات الوقت باحثين عن شخصيات لم نلتقِ بها اطلاقا ، كانت القاصة حَسِنْة الإطلاع وامتلكت ثقافة رصينة وخبرة وحصّنَت كل ذلك بما امتلكته من قراءآت مكثفة عن الجنس الأدبي الذي تكتب فيه . إذ كانت القاصة منى موفقة الى حد ما في المبنى الحكائي لمجمل الأحداث التي جسدتها زماناً ومكاناً واعطت للشخصيات ردود أفعال تجري في سياق متصل ، أما الوصف عندها فكان يمثل تجسيداً لمظاهر أفعال الشخصيات .
(( كل صباح يفتح ابواب ذلك المسرح العتيق ، يسمع تصفيق الجمهور بعد ان يقفوا له على الاقدام اجلالا واكراما ... يعتلي منصة المسرح بجسده النحيل وخطوط وجهه العميقة اخترقت حتى العظام ... ينحني للجمهور بكل خشوع ويردد :
أيها الواهمون ! الحب بخيل ! والفرح مجرد عنوان !! واحلام ليست كما هي الأحلام ... تختلط برائحة التبغ والعفونة ...!! وتلك الحياة التي ماانفكت تنظر الينا بشراسة لتخبرنا اننا هالكون ولم امنحكم سوى الاساءة ولعبه بين الخسارة والربح ...! آهات ، اذلالات ، وجميع اسئلتكم ستترك من غير اجابات ...! ( قصة الواهمون ص 67 . )) .
القصة القصيرة فن قولي أو كتابي يقوم على حدث ويتخلله وصف يطول أو يقصر ، وقد يشوبه حوار أو لايشوبه ، ويبرز فيه شخصية أو أكثر ، محورية أو ثانوية تنهض بالحدث أو ينهض بها الحدث ، والحدث له بيئة خاصة وله أيضا سياق ثقافي واجتماعي وسياسي لامناص للكاتب من أن يعيه ويستوعب تفاصيله وآدابه وتقاليده ، ويرمي ذلك كله الى ترك انطباع واحد في نفس القارىء دونما شطح الى مايشتت أو يبعثر .
(( كانت تعاني اختلاط الأزمنة في ذكرياتها وحتى اختلاط الاماكن . تلك الجدة التي تجاوزت الخامسة والتسعين من عمرها , مازالت تصاب بالذعر حين تشاهد العيون الزرقاء والشعر الأصفر !
حدث صراع بينها وبين ابنة ولدها حين تقدم شاب لخطبتها بتلك المواصفات صرخت بوجه المتقدمين للخطبة وطالبتهم بمغادرة الدار وهي تصرخ اخرجوا من داري ليس لدينا بنات للزواج ، لرجل أشقر ، رفضت تلك الزيجة رفضا قاطعا . ( قصة دهاء ورصاص ص 139 )) .
فيما يخص عناوين قصص هذه المجموعة فقد اعتمدت على عنصر تشكيل الدلالة في استراتيجيتها ، فثمة عناوين تحيل الى مضمون القصة أو تُستمدُ من مغزاها ، كذلك تختلف عناوينها من ناحية البناء اللغوي ، فبعضها كان كلمة واحدة وكلمتين أو ثلاثة لها وظيفة تناصية ، كما استطاعت القاصة منى ان تجمع حُسنَ العرض الى نمو الحدث الى المشهدية المسرحية وأحكمت بنائها وحذّقَت حبكتها واختارت مفردات مفعمة مما أضفى عنصر الإدهاش .
(( قصة حروف ، لحظة هاربة ... مسكتها ... دونتها رغبة بالخلود ، امجدها بالكتابة .
قصة هدف , لاحظت وانا اسير لتحقيق حلمي انني خسرت احذية كثيرة .
قصة شرقيات , الرجل الشرقي يمتلك قلب ذو اربعة طوابق ، وبغرف عديدة تنبعث منها رائحة الدخان . ( قصص قصيرة جدا ص 151 . )) .
القصة القصيرة تستطيع ببنيتها التكثيفية ان تعبّر عن أفكار عدة مهما كان حجمها ، القاصة عَرِفَت كيف توظف كل التقنيات الكتابية الإبداعية بطريقة أعطت فسحة للقارىْ لأن يحلّق في عالم الفهم والتأويل حسب أدواته وامكانياته القرائية ، كما أن البناء الشكلي لقصص هذه المجموعة لايقترن فقط بالمدى الذي تأخذه داخل اللغة بالطول أو القصر ، وانما يعتمد على مرتكزات رئيسية مهمة تميزه عن القصة التقليدية وذلك هو الإختزال والتكثيف في الحدث السردي والإكتفاء بأقل الشخصيات إضافة الى زمكانية مقننة .
(( "" للخوف ظله طويل علينا فهمه كي نستطيع التغلب عليه ... هناك شيء اهم من الخوف هو الفشل والوقوع فيه وتبرير الشجاعة لتجاوز الجبن ... واكبر مواجهة للخوف هي الخطوة الاولى لتعيش طيلة حياتك وانت تشعر بنشوة الانتصار "".
كانت هذه وصايا جدة تقولها بعد كل حكاية من اساطير الخوف والرعب لاطفال مشاكسين لايعرفون السكينة والهدوء في نهارهم .
طفلة شجاعة ! ترعب القطط السوداء وقت الغروب ولا تخشى محاكمة تقام ضدها من القطط وقاضيا وشهودا من البشر ... فهي عرفت اللعبة ! وفهمت الخوف وان حكايات جدتها صندوق دنيا عناوينه الرعب لكنه هو احد دروب الخيال . ( قصة للخوف ظل طويل . ص 25 . )) .
تسيطر ثيمة القلق الإنساني على مجمل قصص المجموعة ولذلك وفِقَت القاصة من ان تجعل من قصصها القصيرة محطات تأمل ثرية لكشف عدداً من التفاصيل الحسية في الواقع المعاش ، فالقصة القصيرة سرد نثري موجز يعتمد على خيال القاص وامتلاكه ملكة تركيبية تحبك الأحداث ، فهي ذات طبيعة مرّنة مطواعة تتخذ اكثر من شكل للبناء والصياغة .
إرسال تعليق
إرسال تعليق